الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد (نسخة منقحة)
.أَدِلّةُ الْمُصَنّفِ فِي تَرْجِيحِ كَوْنِ الْحَكَمَيْنِ حَاكِمَيْنِ: وَالْعَجَبُ كُلّ الْعَجَبِ مِمّنْ يَقُولُ هُمَا وَكِيلَانِ لَا حَاكِمَانِ وَاللّهُ تَعَالَى قَدْ نَصّبَهُمَا حَكَمَيْنِ وَجَعَلَ نَصْبَهُمَا إلَى غَيْرِ الزّوْجَيْنِ وَلَوْ كَانَا وَكِيلَيْنِ لَقَالَ فَلْيَبْعَثْ وَكِيلًا مِنْ أَهْلِهِ وَلْتَبْعَثْ وَكِيلًا مِنْ أَهْلِهَا. وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَا وَكِيلَيْنِ لَمْ يَخْتَصّا بِأَنْ يَكُونَا مِنْ الْأَهْلِ. جَعَلَ الْحُكْمَ إلَيْهِمَا فَقَالَ: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا} وَالْوَكِيلَانِ لَا إرَادَةَ لَهُمَا إنّمَا يَتَصَرّفَانِ بِإِرَادَةِ مُوَكّلَيْهِمَا. وَأَيْضًا فَإِنّ الْوَكِيلَ لَا يُسَمّى حَكَمًا فِي لُغَةِ الْقُرْآنِ وَلَا فِي لِسَانِ الشّارِعِ وَلَا فِي الْعُرْفِ الْعَامّ وَلَا الْخَاصّ. وَأَيْضًا فَالْحَكَمُ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْحُكْمِ وَالْإِلْزَامِ وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَأَيْضًا فَإِنّ الْحَكَمَ أَبْلَغُ مِنْ حَاكِمٍ لِأَنّهُ صِفَةٌ مُشَبّهَةٌ بِاسْمِ الْفَاعِلِ دَالّةٌ عَلَى الثّبُوتِ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعَرَبِيّةِ فِي ذَلِكَ فَإِذَا كَانَ اسْمُ الْحَاكِمِ لَا يَصْدُقُ عَلَى الْوَكِيلِ الْمَحْضِ فَكَيْفَ بِمَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْهُ. وَأَيْضًا فَإِنّهُ سُبْحَانَهُ خَاطَبَ بِذَلِكَ غَيْرَ الزّوْجَيْنِ وَكَيْفَ يَصِحّ أَنْ يُوَكّلَ عَنْ الرّجُلِ وَالْمَرْأَةِ غَيْرَهُمَا وَهَذَا يُحْوِجُ إلَى تَقْدِيرِ الْآيَةِ هَكَذَا: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} فَمُرُوهُمَا أَنْ يُوَكّلَا وَكِيلَيْنِ وَكِيلًا مِنْ أَهْلِهِ وَوَكِيلًا مِنْ أَهْلِهَا وَمَعْلُومٌ بُعْدُ لَفْظِ الْآيَةِ وَمَعْنَاهَا عَنْ هَذَا التّقْدِيرِ وَأَنّهَا لَا تَدُلّ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ بَلْ هِيَ دَالّةٌ عَلَى خِلَافِهِ وَهَذَا بِحَمْدِ اللّهِ وَاضِحٌ. وَبَعَثَ عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ عَبْدَ اللّهِ بْنَ عَبّاسٍ وَمُعَاوِيَةَ حَكَمَيْنِ بَيْنَ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَامْرَأَتِهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ فَقِيلَ لَهُمَا: إنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تُفَرّقَا فَرّقْتُمَا وَصَحّ عَنْ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنّهُ قَالَ لِلْحَكَمَيْنِ بَيْنَ الزّوْجَيْنِ عَلَيْكُمَا إنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تُفَرّقَا فَرّقْتُمَا وَإِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تَجْمَعَا جَمَعْتُمَا وَعَلِيّ وَابْنُ عَبّاسٍ وَمُعَاوِيَةُ جَعَلُوا الْحُكْمَ إلَى الْحَكَمَيْنِ وَلَا يُعْرَفُ لَهُمْ مِنْ الصّحَابَةِ مُخَالِفٌ وَإِنّمَا يُعْرَفُ الْخِلَافُ بَيْنَ التّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ. وَإِذَا قُلْنَا: إنّهُمَا وَكِيلَانِ فَهَلْ يُجْبَرُ الزّوْجَانِ عَلَى تَوْكِيلِ الزّوْجِ فِي الْفُرْقَةِ بِعِوَضٍ وَغَيْرِهِ وَتَوْكِيلِ الزّوْجَةِ فِي بَذْلِ الْعِوَضِ أَوْ لَا يُجْبَرَانِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ فَإِنْ قُلْنَا: يُجْبَرَانِ فَلِمَ يُوَكّلَا جَعَلَ الْحَاكِمُ ذَلِكَ إلَى الْحَكَمَيْنِ بِغَيْرِ رِضَى الزّوْجَيْنِ وَإِنْ قُلْنَا: إنّهُمَا حَكَمَانِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى رِضَى الزّوْجَيْنِ. وَعَلَى هَذَا النّزَاعِ يَنْبَنِي مَا لَوْ غَابَ الزّوْجَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا فَإِنْ قِيلَ إنّهُمَا وَكِيلَانِ لَمْ يَنْقَطِعْ نَظَرُ الْحَكَمَيْنِ وَإِنْ قِيلَ حَكَمَانِ انْقَطَعَ نَظَرُهُمَا لِعَدَمِ الْحُكْمِ عَلَى الْغَائِبِ وَقِيلَ يَبْقَى نَظَرُهُمَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ لِأَنّهُمَا يَتَطَرّفَانِ لِحَظّهِمَا فَهُمَا كَالنّاظِرَيْنِ. وَإِنْ جُنّ الزّوْجَانِ انْقَطَعَ نَظَرُ الْحَكَمَيْنِ إنْ قِيلَ إنّهُمَا وَكِيلَانِ لِأَنّهُمَا فَرْعُ الْمُوَكّلِينَ وَلَمْ يَنْقَطِعْ إنْ قِيلَ إنّهُمَا حَكَمَانِ لِأَنّ الْحَاكِمَ يَلِي عَلَى الْمَجْنُونِ. وَقِيلَ يَنْقَطِعُ أَيْضًا لِأَنّهُمَا مَنْصُوبَانِ عَنْهُمَا فَكَأَنّهُمَا وَكِيلَانِ وَلَا رَيْبَ أَنّهُمَا حَكَمَانِ فِيهِمَا شَائِبَةُ الْوَكَالَةِ وَوَكِيلَانِ مَنْصُوبَانِ لِلْحُكْمِ فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ رَجّحَ جَانِبَ الْحُكْمِ وَمِنْهُمْ مَنْ رَجّحَ جَانِبَ الْوَكَالَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَبَرَ الْأَمْرَيْنِ..حُكْمُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْخُلْعِ: فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيّ: عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمّاسٍ أَتَتْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ مَا أَعِيبُ عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ وَلَا دِينٍ وَلَكِنّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَرُدّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ قَالَتْ نَعَمْ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اقْبَلْ الْحَدِيقَةَ وَطَلّقْهَا تَطْلِيقَةً سُنَنِ النّسَائِيّ عَنْ الرّبَيّعِ بِنْتِ مُعَوّذٍ أَنّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ شَمّاسٍ ضَرَبَ امْرَأَتَهُ فَكَسَرَ يَدَهَا وَهِيَ جَمِيلَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُبَيّ فَأَتَى أَخُوهَا يَشْتَكِيهِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَرْسَلَ إلَيْهِ فَقَالَ خُذْ الّذِي لَهَا عَلَيْكَ وَخَلّ سَبِيلَهَا قَالَ نَعَمْ فَأَمَرَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ تَتَرَبّصَ حَيْضَةً وَاحِدَةً وَتَلْحَقَ بِأَهْلِهَا. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ: عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمّاسٍ اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا فَأَمَرَهَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ تَعْتَدّ حَيْضَةً. وَفِي سُنَنِ الدّارَقُطْنِيّ فِي هَذِهِ الْقِصّةِ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَتَرُدّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ الّتِي أَعْطَاكِ؟ قَالَتْ نَعَمْ وَزِيَادَةً فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمّا الزّيَادَةُ فَلَا وَلَكِنْ حَدِيقَتَهُ قَالَتْ نَعَمْ فَأَخَذَ مَالَهُ وَخَلّى سَبِيلَهَا فَلَمّا بَلَغَ ذَلِكَ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ قَالَ قَدْ قَبِلْتُ قَضَاءَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ. قَالَ الدّارَقُطْنِيّ إسْنَادُهُ صَحِيحٌ. فَتَضَمّنَ هَذَا الْحُكْمُ النّبَوِيّ عِدّةَ أَحْكَامٍ..جَوَازُ الْخُلْعِ: أَحَدُهَا: جَوَازُ الْخُلْعِ كَمَا دَلّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَحِلّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنّ شَيْئًا إِلّا أَنْ يَخَافَا أَلّا يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [الْبَقَرَةُ 229] طَائِفَةٌ شَاذّةٌ مِنْ النّاسِ خَالَفَتْ النّصّ وَالْإِجْمَاعَ..حُصُولُ الْبَيْنُونَةِ بِالْخُلْعِ: وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِهِ مُطْلَقًا بِإِذْنِ السّلْطَانِ وَغَيْرِهِ وَمَنَعَهُ طَائِفَةٌ بِدُونِ إذْنِهِ وَالْأَئِمّةُ الْأَرْبَعَةُ وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِ. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى حُصُولِ الْبَيْنُونَةِ بِهِ لِأَنّهُ سُبْحَانَهُ سَمّاهُ فِدْيَةً وَلَوْ كَانَ رَجْعِيّا كَمَا قَالَهُ بَعْضُ النّاسِ لَمْ يَحْصُلْ لِلْمَرْأَةِ الِافْتِدَاءُ مِنْ الزّوْجِ بِمَا بَذَلَتْهُ لَهُ وَدَلّ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} عَلَى جَوَازِهِ بِمَا قَلّ وَكَثُرَ وَأَنّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمّا أَعْطَاهَا. وَقَدْ ذَكَرَ عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عُقَيْلٍ أَنّ الرّبَيّعَ بِنْتَ مُعَوّذِ بْنِ عَفْرَاءَ حَدّثَتْهُ أَنّهَا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا بِكُلّ شَيْءٍ تَمْلِكُهُ فَخُوصِمَ فِي ذَلِكَ إلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ فَأَجَازَهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ عِقَاصَ رَأْسِهَا فَمَا دُونَهُ. وَذَكَرَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ أَنّ ابْنَ عُمَرَ جَاءَتْهُ مَوْلَاةٌ لِامْرَأَتِهِ اخْتَلَعَتْ مِنْ كُلّ شَيْءٍ لَهَا وَكُلّ ثَوْبٍ لَهَا حَتّى نُقْبَتِهَا. وَرَفَعَتْ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ امْرَأَةٌ نَشَزَتْ عَنْ زَوْجِهِمَا فَقَالَ اخْلَعْهَا وَلَوْ مِنْ قُرْطِهَا ذَكَرَهُ حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَيّوبَ عَنْ كَثِيرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْهُ. وَذَكَرَ عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ لَيْثٍ عَنْ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ عَنْ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ لَا يَأْخُذُ مِنْهَا فَوْقَ مَا أَعْطَاهَا. وَقَالَ طَاوُوسٌ لَا يَحِلّ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمّا أَعْطَاهَا وَقَالَ عَطَاءٌ إنْ أَخَذَ زِيَادَةً عَلَى صَدَاقِهَا فَالزّيَادَةُ مَرْدُودَةٌ إلَيْهَا. وَقَالَ الزّهْرِيّ لَا يَحِلّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمّا أَعْطَاهَا. وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مَهْرَانَ إنْ أَخَذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمّا أَعْطَاهَا لَمْ يُسَرّحْ بِإِحْسَانٍ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ كَانَتْ الْقُضَاةُ لَا تُجِيزُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا إلّا مَا سَاقَ إلَيْهَا. وَاَلّذِينَ جَوّزُوهُ احْتَجّوا بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَآثَارِ الصّحَابَةِ وَاَلّذِينَ مَنَعُوهُ احْتَجّوا بِحَدِيثِ أَبِي الزّبَيْرِ أَنّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ شَمّاسٍ لَمّا أَرَادَ خَلْعَ امْرَأَتِهِ قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَتَرُدّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ قَالَتْ نَعَمْ وَزِيَادَةً فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمّا الزّيَادَةُ فَلَا. قَالَ الدّارَقُطْنِيّ سَمِعَهُ أَبُو الزّبَيْرِ مِنْ غَيْرِ وَاحِدٍ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. قَالُوا: وَالْآثَارُ مِنْ الصّحَابَةِ مُخْتَلِفَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ تَحْرِيمُ الزّيَادَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ إبَاحَتُهَا وَمِنْهُمْ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ كَرَاهَتُهَا كَمَا رَوَى وَكِيعٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ عَمّارِ بْنِ عِمْرَانَ الْهَمْدَانِيّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّهُ كَرِهَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمّا أَعْطَاهَا وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ أَخَذَ بِهَذَا الْقَوْلِ وَنَصّ عَلَى الْكَرَاهَةِ وَأَبُو بَكْرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ حَرّمَ الزّيَادَةَ وَقَالَ تَرُدّ عَلَيْهَا. وَقَدْ ذَكَرَ عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ قَالَ لِي عَطَاءٌ أَتَتْ امْرَأَةٌ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّي أُبْغِضُ زَوْجِي وَأُحِبّ فِرَاقَهُ قَالَ فَتَرُدّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ الّتِي أَصْدَقَكِ؟ قَالَتْ نَعَمْ وَزِيَادَةً مِنْ مَالِي فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمّا الزّيَادَةُ مِنْ مَالِك فَلَا وَلَكِنْ الْحَدِيقَةُ قَالَتْ نَعَمْ فَقَضَى بِذَلِكَ عَلَى الزّوْجِ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا فَحَدِيثُ أَبِي الزّبَيْرِ مُقَوّ لَهُ وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْهُمَا..فَصْلٌ حُكْمُ الرّجْعَةِ مِنْ الْخُلْعِ فِي الْعِدّةِ: وَفِي تَسْمِيَتِهِ سُبْحَانَهُ الْخُلْعَ فِدْيَةً دَلِيلٌ عَلَى أَنّ فِيهِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ وَلِهَذَا اُعْتُبِرَ فِيهِ رِضَى الزّوْجَيْنِ فَإِذَا تَقَايَلَا الْخُلْعَ وَرَدّ عَلَيْهَا مَا أَخَذَ مِنْهَا وَارْتَجَعَهَا فِي الْعِدّةِ فَهَلْ لَهُمَا ذَلِكَ؟ مَنَعَهُ الْأَئِمّةُ الْأَرْبَعَةُ وَغَيْرُهُمْ وَقَالُوا: قَدْ بَانَتْ مِنْهُ بِنَفْسِ الْخُلْعِ وَذَكَرَ عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ أَنّهُ قَالَ فِي الْمُخْتَلِعَةِ إنْ شَاءَ أَنْ يُرَاجِعَهَا فَلْيَرُدّ عَلَيْهَا مَا أَخَذَ مِنْهَا فِي الْعِدّةِ وَلْيَشْهَدْ عَلَى رَجْعَتِهَا قَالَ مَعْمَرٌ وَكَانَ الزّهْرِيّ يَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ. قَالَ قَتَادَةُ: وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ لَا يُرَاجِعُهَا إلّا بِخُطْبَةٍ. وَلِقَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ وَالزّهْرِيّ وَجْهٌ دَقِيقٌ مِنْ الْفِقْهِ لَطِيفُ الْمَأْخَذِ تَتَلَقّاهُ قَوَاعِدُ الْفِقْهِ وَأُصُولُهُ بِالْقَبُولِ وَلَا نَكَارَةَ فِيهِ غَيْرَ أَنّ الْعَمَلَ عَلَى خِلَافِهِ فَإِنّ الْمَرْأَةَ مَا دَامَتْ فِي الْعِدّةِ فَهِيَ فِي حَبْسِهِ وَيَلْحَقُهَا صَرِيحُ طَلَاقِهِ الْمُنَجّزِ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَإِذَا تَقَايَلَا عَقْدَ الْخُلْعِ وَتَرَاجَعَا إلَى مَا كَانَا عَلَيْهِ بِتَرَاضِيهِمَا لَمْ تَمْنَعْ قَوَاعِدُ الشّرْعِ ذَلِكَ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْعِدّةِ فَإِنّهَا قَدْ صَارَتْ مِنْهُ أَجْنَبِيّةً مَحْضَةً فَهُوَ خَاطِبٌ مِنْ الْخُطّابِ وَيَدُلّ عَلَى هَذَا أَنّ لَهُ أَنْ يَتَزَوّجَهَا فِي عِدّتِهَا مِنْهُ بِخِلَافِ غَيْرِهِ..فصل مَا يُسْتَنْبَطُ مِنْ أَمْرِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمُخْتَلِعَةَ أَنْ تَعْتَدّ بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ: أَمْرِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمُخْتَلِعَةَ. أَنْ تَعْتَدّ بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ دَلِيلٌ عَلَى حُكْمَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ بَلْ تَكْفِيهَا حَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ وَهَذَا كَمَا أَنّهُ صَرِيحُ السّنّةِ فَهُوَ مَذْهَبُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ وَعَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّاب وَالرّبَيّعِ بِنْتِ مُعَوّذٍ وَعَمّهَا وَهُوَ مِنْ كِبَارِ الصّحَابَةِ لَا يُعْرَفُ لَهُمْ مُخَالِفٌ مِنْهُمْ كَمَا رَوَاهُ اللّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ أَنّهُ سَمِعَ الرّبَيّعَ بِنْتَ مُعَوّذِ بْنِ عَفْرَاءَ وَهِيَ تُخْبِرُ عَبْدَ اللّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّهَا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا عَلَى عَهْدِ عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ فَجَاءَ عَمّهَا إلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ فَقَالَ لَهُ إنّ ابْنَةَ مُعَوّذٍ اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا الْيَوْمَ أَفَتَنْتَقِلُ؟ فَقَالَ عُثْمَانُ لِتَنْتَقِلْ وَلَا مِيرَاثَ بَيْنَهُمَا وَلَا عِدّةَ عَلَيْهَا إلّا أَنّهَا لَا تَنْكِحُ حَتّى تَحِيضَ حَيْضَةً خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ بِهَا حَبَلٌ فَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ: فَعُثْمَانُ خَيْرُنَا وَأَعْلَمُنَا وَذَهَبَ إلَى هَذَا الْمَذْهَبِ إسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ اخْتَارَهَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيّةَ. قَالَ مَنْ نَصَرَ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ مُقْتَضَى قَوَاعِدِ الشّرِيعَةِ فَإِنّ الْعِدّةَ إنّمَا جُعِلَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ لِيَطُولَ زَمَنُ الرّجْعَةِ فَيَتَرَوّى الزّوْجُ وَيَتَمَكّنُ مِنْ الرّجْعَةِ فِي مُدّةِ الْعِدّةِ فَإِذَا لَمْ تَكُنْ عَلَيْهَا رَجْعَةٌ فَالْمَقْصُودُ مُجَرّدُ بَرَاءَةِ رَحِمِهَا مِنْ الْحَمْلِ وَذَلِكَ يَكْفِي فِيهِ. قَالُوا: وَلَا يَنْتَقِضُ هَذَا عَلَيْنَا بِالْمُطَلّقَةِ ثَلَاثًا فَإِنّ بَابَ الطّلَاقِ جَعَلَ حُكْمَ الْعِدّةِ فِيهِ وَاحِدًا بَائِنَةً وَرَجْعِيّةً..الْخُلْعُ فَسْخٌ: قَالُوا: وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنّ الْخُلْعَ فَسْخٌ وَلَيْسَ بِطَلَاقٍ وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبّاسٍ وَعُثْمَان وَابْنِ عُمَرَ وَالرّبَيّعِ وَعَمّهَا وَلَا يَصِحّ عَنْ صَحَابِيّ أَنّهُ طَلَاقٌ أَحْمَدُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ أَنّهُ قَالَ الْخُلْعُ تَفْرِيقٌ وَلَيْسَ بِطَلَاقٍ وَذَكَرَ عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ طَاوُسٍ أَنّ إبْرَاهِيمَ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ سَأَلَهُ عَنْ رَجُلٍ طَلّقَ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَتَيْنِ ثُمّ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ أَيَنْكِحُهَا؟ قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ: نَعَمْ ذَكَرَ اللّهُ الطّلَاقَ فِي أَوّلِ الْآيَةِ وَآخِرِهَا والْخُلْعَ بَيْنَ ذَلِك فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ تَقُولُونَ إنّهُ لَا مُخَالِفَ لِمَنْ ذَكَرْتُمْ مِنْ الصّحَابَةِ وَقَدْ رَوَى حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جُمْهَانَ أَنّ أُمّ بَكْرَةَ الْأَسْلَمِيّةَ كَانَتْ تَحْتَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُسَيْدٍ وَاخْتَلَعَتْ مِنْهُ فَنَدِمَا فَارْتَفَعَا إلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ فَأَجَازَ ذَلِكَ وَقَالَ هِيَ وَاحِدَةٌ إلّا أَنْ تَكُونَ سَمّتْ شَيْئًا فَهُوَ عَلَى مَا سَمّتْ وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا عَلِيّ بْنُ هَاشِمٍ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرّفٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ النّخَعِيّ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ لَا تَكُونُ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ إلّا فِي فِدْيَةٍ أَوْ إيلَاءٍ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَهَؤُلَاءِ ثَلَاثَةٌ مِنْ أَجِلّاءِ الصّحَابَةِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ. قِيلَ لَا يَصِحّ هَذَا عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَمّا أَثَرُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَطَعَنَ فِيهِ الْإِمَامُ أَحْمَد وَالْبَيْهَقِيّ وَغَيْرُهُمَا قَالَ شَيْخُنَا: وَكَيْفَ يَصِحّ عَنْ عُثْمَانَ وَهُوَ لَا يَرَى فِيهِ عِدّةً وَإِنّمَا يَرَى الِاسْتِبْرَاءَ فِيهِ بِحَيْضَةٍ؟ فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ طَلَاقًا لَأَوْجَبَ فِيهِ الْعِدّةَ وَجُمْهَانُ الرّاوِي لِهَذِهِ الْقِصّةِ عَنْ عُثْمَانَ لَا نَعْرِفُهُ بِأَكْثَرَ مِنْ أَنّهُ مَوْلَى الْأَسْلَمِيّينَ..الدّلِيلُ عَلَى أَنّ الْخُلْعَ لَيْسَ بِطَلَاقٍ: وَأَمّا أَثَرُ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ أَبُو مُحَمّدٍ ابْنُ حَزْمٍ رُوّينَاهُ مِنْ طَرِيقٍ لَا عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ. وَأَمْثَلُهَا: أَثَرُ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى سُوءِ حِفْظِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى ثُمّ غَايَتُهُ إنْ كَانَ مَحْفُوظًا أَنْ يَدُلّ عَلَى أَنّ الطّلْقَةَ فِي الْخُلْعِ تَقَعُ بَائِنَةً لَا أَنّ الْخُلْعَ يَكُونُ طَلَاقًا بَائِنًا وَبَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَرْقٌ ظَاهِرٌ. وَاَلّذِي يَدُلّ عَلَى أَنّهُ لَيْسَ بِطَلَاقٍ أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رَتّبَ عَلَى الطّلَاقِ بَعْدَ الدّخُولِ الّذِي لَمْ يَسْتَوْفِ عَدَدَهُ ثَلَاثَةَ أَحْكَامٍ كُلّهَا مُنْتَفِيَةٌ عَنْ الْخُلْعِ أَحَدُهَا: أَنّ الزّوْجَ أَحَقّ بِالرّجْعَةِ فِيهِ.الثّانِي: أَنّهُ مَحْسُوبٌ مِنْ الثّلَاثِ فَلَا تَحِلّ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْعَدَدِ إلّا بَعْدَ زَوْجٍ وَإِصَابَةٍ.الثّالِثُ أَنّ الْعِدّةَ فِيهِ ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ. وَقَدْ ثَبَتَ بِالنّصّ وَالْإِجْمَاعِ أَنّهُ لَا رَجْعَةَ فِي الْخُلْعِ وَثَبَتَ بِالسّنّةِ وَأَقْوَالِ الصّحَابَةِ أَنّ الْعِدّةَ فِيهِ حَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ وَثَبَتَ بِالنّصّ جَوَازُهُ بَعْدَ طَلْقَتَيْنِ وَوُقُوعِ ثَالِثَةٍ بَعْدَهُ وَهَذَا ظَاهِرٌ جِدّا فِي كَوْنِهِ لَيْسَ بِطَلَاقٍ فَإِنّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: {الطّلَاقُ مَرّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنّ شَيْئًا إِلّا أَنْ يَخَافَا أَلّا يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [الْبَقَرَةُ 229] وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَخْتَصّ بِالْمُطَلّقَةِ تَطْلِيقَتَيْنِ فَإِنّهُ يَتَنَاوَلُهَا وَغَيْرَهُمَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الضّمِيرُ إلَى مَنْ لَمْ يَذْكُرْ وَيُخْلَى مِنْهُ الْمَذْكُورُ بَلْ إمّا أَنْ يَخْتَصّ بِالسّابِقِ أَوْ يَتَنَاوَلَهُ وَغَيْرَهُ. ثُمّ قَالَ: {فَإِنْ طَلّقَهَا فَلَا تَحِلّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} وَهَذَا يَتَنَاوَلُ مَنْ طَلُقَتْ بَعْدَ فِدْيَةٌ وَطَلْقَتَيْنِ قَطْعًا لِأَنّهَا هِيَ الْمَذْكُورَةُ فَلَا بُدّ مِنْ دُخُولِهَا تَحْتَ اللّفْظِ وَهَكَذَا فَهِمَ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ الّذِي دَعَا لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يُعَلّمَهُ اللّهُ تَأْوِيلَ الْقُرْآنِ وَهِيَ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ بِلَا شَكّ. وَإِذَا كَانَتْ أَحْكَامُ الْفِدْيَةِ غَيْرَ أَحْكَامِ الطّلَاقِ دَلّ عَلَى أَنّهَا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ فَهَذَا مُقْتَضَى النّصّ وَالْقِيَاسِ وَأَقْوَالِ الصّحَابَةِ ثُمّ مَنْ نَظَرَ إلَى حَقَائِقِ الْعُقُودِ وَمَقَاصِدِهَا دُونَ أَلْفَاظِهَا يَعُدّ الْخُلْعَ فَسْخًا بِأَيّ لَفْظٍ كَانَ حَتّى بِلَفْظِ الطّلَاقِ وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ أَحْمَدَ وَهُوَ اخْتِيَارُ شَيْخِنَا. قَالَ وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ وَكَلَامِ ابْنِ عَبّاسٍ وَأَصْحَابِهِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ أَنّهُ سَمِعَ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبّاسٍ يَقُولُ مَا أَجَازَهُ الْمَالُ فَلَيْسَ بِطَلَاقٍ. قَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَحْمَدَ رَأَيْتُ أَبِي كَانَ يَذْهَبُ إلَى قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ. وَقَالَ عَمْرٌو عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ الْخُلْعُ تَفْرِيقٌ وَلَيْسَ بِطَلَاقٍ وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ كَانَ أَبِي لَا يَرَى الْفِدَاءَ طَلَاقًا وَيُخَيّرُهُ. وَمَنْ اعْتَبَرَ الْأَلْفَاظَ وَوَقَفَ مَعَهَا وَاعْتَبَرَهَا فِي أَحْكَامِ الْعُقُودِ جَعَلَهُ بِلَفْظِ الطّلَاقِ طَلَاقًا وَقَوَاعِدُ الْفِقْهِ وَأُصُولُهُ تَشْهَدُ أَنّ الْمَرْعِيّ فِي الْعُقُودِ حَقَائِقُهَا وَمَعَانِيهَا لَا صُوَرُهَا وَأَلْفَاظُهَا وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ. وَمِمّا يَدُلّ عَلَى هَذَا أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ أَنْ يُطَلّقَ امْرَأَتَهُ فِي الْخُلْعِ تَطْلِيقَةً وَمَعَ هَذَا أَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدّ بِحَيْضَةٍ وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنّهُ فَسْخٌ وَلَوْ وَقَعَ بِلَفْظِ الطّلَاقِ. وَأَيْضًا فَإِنّهُ سُبْحَانَهُ عَلّقَ عَلَيْهِ أَحْكَامَ الْفِدْيَةِ بِكَوْنِهِ فِدْيَةً وَمَعْلُومٌ أَنّ الْفِدْيَةَ لَا تَخْتَصّ بِلَفْظٍ وَلَمْ يُعَيّنْ اللّهُ سُبْحَانَهُ لَهَا لَفْظًا مُعَيّنًا وَطَلَاقُ الْفِدَاءِ طَلَاقٌ مُقَيّدٌ وَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ أَحْكَامِ الطّلَاقِ الْمُطَلّقُ كَمَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَهَا فِي ثُبُوتِ الرّجْعَةِ وَالِاعْتِدَادِ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ بِالسّنّةِ الثّابِتَةِ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ.
|